السرقات الشعرية وما يتصل بها – دراسات في البلاغة العربية وعراف الكرمل


بدأ الحديث الدكتور الياس عطاالله عن كتاب د.فهد أبو خضرة " السرقات الشعرية وما يتصل بها – دراسات في البلاغة العربية1"، قال:



بنيت قراءتي هذه لكتاب الزّميل" أبو خضرة" على ثلاث ركائز: الموضوع، العلميّة، والأكاديميّة الجافّة.



على صعيد الموضوع؛ موضوع السّرقات الشّعريّة قديم العهد في العربيّة كما أشار الكاتب، وقلّ من سلم من الشّعراء منذ الجاهليّة من هذه النّقيصة أو الضعف الإنساني في السطو على إبداعات الآخرين، ولقد أورد الكاتب كلّ المصطلحات المرادفة للسرقة، وأورد بنيّاتها... والكمُّ المصطلحيّ كبير وكثير التعقيد، وحسنا فعل- أقولها بتحفّظ- في محاولته التّقليل من هذه المصطلحات، وجمعِ بعضها تحت مصطلحٍ مظلّةٍ واحد، وبهذا اختزل- كما أورد في التعقيب ( ص 126)- ستة وخمسين مصطلحا إلى أربعة عشر مصطلحا رئيسا. رغم هذه المحاولة الطيّبة، يلاحقني سؤال لا أملك له جوابا، وهو يتعلّق بالجدوى؛ فما الجدوى من التخلّص من التّرادف- إن كان ثمّة ترادفٌ- ( تعدّد مفردات الدّلالة الواحدة= synonymy) والوقوع في الاشتراك ( تعدّد دلالات المصطلح الواحد= polysemy)؟ وإن كانت كتب البلاغة القديمة تحتفظ بهذا الكمّ المصطلحيّ، فإنّ الدّارسين لهذا الموضوع حين اعتمادهم هذه المصادرَ الكلاسيكيّة، سيجبهون بها، وسيكونون مضطرين لمعرفة حدودها، أمّا عمليّة الاختزال فقد تصلح لطلبة الثانويّات، ولكلّ قارئ غير مختصّ، وعليه أرجو الزميل الدكتور مراجعة قوله: ” إن اعتماد هذا... يزيل من طريق المختصّين وغير المختصّين بالموضوع عقبات شديدة مزعجة...“ ( ص 128)، فالمختصّون أو الذين في طريق الاختصاص لا يجديهم الاختزال في شيء وهم يعتمدون العمدة وكتاب الصّناعتين وأمثالهما.



ويظلّ في البال سؤال يبحث عن إجابة منعتقة من أغلال ابن رشيق والعسكريّ وابن المعتزّ وابن منقذ وأمثالهم: هل السّرقة بأنواعها مبحث بلاغيّ؟ وإلى أي فنٍّ من علوم البديع أو البيان أو المعاني تنتمي؟ أما آن لنا أن ننزّه البلاغة عن هذا " الفنّ" الغزويّ الاحتلاليّ؟ خاصّة وأنّ السّرقات بشبه إجماع، كما أشار المؤلّف، محصورة في الشعر، وممثّل لها بالشعر، في الوقت الذي تحتضن فيه السّرقات مجالات الفكر والعلم والإنتاج عامّة، ناهيك عن أنّ إدراج السّرقة في المبحث البلاغيّ هو إعلاء لشأن السّرقة وحطّ من شأن البلاغة.



على صعيد العلميّة؛ لا شكّ في أنّ الكاتب بذل جهدا واسعا في التّنقيب في أمّهات مصادر البلاغة والشعر العربيّ، وأتانا بعصارة ما ورد فيها، تعليلا وشرحا وتمثيلا، حتى أضحت قراءة الأبيات المضمّنة وحدها متعة على حيالها، وكان على غاية من الدّقّة والوضوح في التمييز بين جمهرة المصطلحات وكتابة حدودها، مع إجراء المقارنات بين جملة من المصطلحات المتشابهة، الأمر الذي يسهّل على القارئ والدّارس الكثير الكثير، ولن أستبق الأمور بالتقرير بكلاسيكيّة المنهج المتّبع، تمثيلا وحدّا، فقد يكون الكتاب التالي في البلاغة العربيّة ومصطلحاتها المعاصرة، وعلى رأسها التّناصّ intertextuality والتّثاقف والتّلاقح الفكري والمجتمعيّ الحضاريّ acculturation اللذان يحلاّن محل المصطلح الكلاسيكي، أو اللذان يصلحان للتعامل مع النّصوص المعاصرة من مختلف أجناس الأدب، وهذا ما يحتاجه طلبتنا، لأنّ عددا كبيرا منهم ما زال يتناول إبداعات معاصرة بمصطلحات ابن رشيق وبأدوات جناسيّة طباقيّة، بل إن معنى التكرير، وهو من أوسع مصطلحات البلاغة دلالة، يعني عند غالبيّتهم التوكيد، وكأنّه من مباحث النحو لا غير. لا يعني قولي هذا حاجة الطلبة والدّارسين عامّة إلى إبطال أو محو المصطلح الكلاسيكي حين البحث في السّرقات المعاصرة، والتي لا تستقيم معها دماثة مصطلحَي التّناصّ والتّثاقُف، فبعضها سطو غير مسلّح، ولقد أشار الكاتب إلى عيّنة منها بصورة عجلى( تُنظر ص 65) في باب ” التأثّر“، وليته، استزادة للفائدة والمتعة، أورد نماذج لهذا التأثّر، فالأمر ضرورة عند شريحة كبيرة من القرّاء، لم تقرأ قصيدة جاك بريفير ” فطور الصّباح“، ولا أحيلت إلى ” مع جريدة“ "الملطوشة" عنها لنزار قبّاني في أي ديوان تكون! نحن الذين قرّرنا التأثر أو التّناصّ أو السّرقة، وهذا إسقاط على القارئ واستلاب لرأيه وذوقه.



من الملاحظ أنّ الكاتب بوّب موضوعات كتابه ورتّبها بشكل سهل ممتنع، رمى فيه إلى التّقريب والتّوضيح، حيث أورد المصطلح ومرادفاته- أو مصطلحاته البديلة- وحدَّه والتمثيل له، متبوعا بملاحظات الكاتب نفسه، أو بملاحظات بعض النّقاد والكتّاب الذين أعتمدهم، ومنهجيّته في الأمر واضحة، لم يخرج عنها إلا في مصطلحَي” الالتقاط والتّلفيق“ ( ص ص 32- 33)، ومصطلح ” الكشف“ ( 62)، حيث اختفت الملاحظات، والملاحظات برأيي مقوّم هامّ في الكتاب، بل لعلّها الأكثر أهمّيّة عل الصعيد العلميّ.



أفلح الكاتب في الشّأن العرضي التيسيري التوضيحي أيّما إفلاح، ومن هنا أهميّة الكتاب للدارس، فهو سهل المتناول، سلس العبارة كما يقول القدماء حتى عصر الزّيّات، وليته، إكمالا للفائدة، شرح الدّلالة اللغويّة لبعض المصطلحات، كما فعل مع مصطلح ” المماتنة“ ( ص 122)، إذ إنّ الدلالة المعجميّة قد تختلف عن الدلالة المحدودة للمصطلح، رغم أنّ الثّانية مبنيّة على الأولى، أقول هذا لأنّ ثمّة بعضا من المصطلحات الغريبة المحتاجة إلى توضيح الدلالة اللغويّة، نحو: المصالتة، التّلفيق، الرّفو، التّمليط ( تنظر صفحاتها في باب المحتويات).



على صعيد الأكاديميّة الجافّة؛ والجفاف الأكاديميّ مرغوب فيه في الأبحاث والدراسات، مرغوب عنه في كتابات أخرى، ويسمح لي الكاتب الصّديق، ولأنّني آمل أن أرى الكتاب كتاب تدريس لطلبتنا، مع الكتاب التالي له في البلاغة المعاصرة، أو في مصطلحاتها، أن يلتفت إلى الهنات التّالية الواقعة في الكتاب:




  1. زحمة الأخطاء المطبعيّة، ومن هذا مثالا لا حصرا: ولا ريب أنّ ( ص 10) فأسقاط مِن التّالية لريب لم يرد إلا في الشّعر... وكم أتمنّى أن تكون بعض التّرخيصات التي يتمتّع بها الشّعراء شاملة لأهل اللّغة في جميع أنواع الكتابة)، إياكً(21)، مشغوفةَ ( 30)، قو+ حبَا ( 39)، والآنسب ( 59)، المخالِطة ( 62)، تغييرَا( 69)، أضاععوا( 74)، الأخيَطل ( 77)، النّاشر( 83)، بيت الشّعر الوارد ( 93)، ابن ( 95)، ونكون تأنواع ( 126)... إضافة إلى ضرورة كتابة تنوين الفتح بمنهجيّة واحدة، على الحرف السّابق للألف، لا عليه تارة، وعلى الألف أخرى.


  2. ذكرتَ أسماء كتب ومؤلّفين، واعتمدت على مقولة ” قال بعضهم“، دون أن تحيل إلى كتاب أو صفحة، ويكفي أن تعود إلى ” التّمهيد“ وإلى ملاحظات مصطلح ” السّلخ“( ص 41) للوقوف على هذا. تقضي الأكاديميّة، وأنت من رجالها، سدّ هذه الثغرة، لا لوجه الأكاديميّة فحسب، بل خدمة للمضمون والجهد الذي بذلته.


  3. قرّرتَ مَن أخذ عن مَن في شتى أنواع السرقات، واعتمدت الكلاسيكيّات مرجعيّة، أرجو ألا تسلّم بالأمر، وأن تتفحّص سنوات وفاة الشعراء للتيقّن من صدق أو كذب ما ذهب إليه القدماء، أو زيادة في العلميّة والفائدة للقارئ، ومن هذا، مثلا، إدراجك في باب ” الاهتدام“ أنّ امرَأ ألقيس اهتدم بيتا لأبي دؤاد الإياديّ، فما الدليل وامرؤ ألقيس متوفّى سنة 544 م. والأيادي متوفّى سنة 545م.؟ ومنه أيضا قولك( وهو قول المراجع الكلاسيكيّة): ” قال أحد الشعراء“، أو ” قال أحدهم“ أو ” بعضهم“، فإن كنّا نجهل الاسم والعصر فكيف نقرّر السّرقة وفاعلَها؟ يستحسن إسقاط الأمر، أو إثبات أنّ " ألأحدهم" هذا لاحق للمأخوذ عنه، أو الإشارة إلى كون الأمر منهجا في كتابات القدماء يتطلّب انتباها.


  4. عدد لا بأس به ممّن نكّرتَهم، أو نكّرتْهم المصادر المثبتة، معروف، ومن هذا ما جاء في ( ص 48): ” وقول أحد الشعراء: وإخوانٌ حسبتهمُ دروعًا فكانوها، ولكنْ للأعادي“



 




  1. فالشاعر هو عليّ المجاشعيّ المعروف أيضا بأبي الحسن المجاشعي القيروانيّ النّحويّ كما جاء في ربيع الأبرار للزّمخشري، ناهيك عن الاستشهاد به في باب حسن الاتّباع والاختصار، حيث اختصر- كما قلت وقال القدماء- بيتا لابن الروميّ، والحقيقة هي عكس ذلك، لأنّ البيت الذي أوردته للمجاشعيّ له توأم غير منفكّ عنه، وهو: وخِلتهم سهامًا صائبات فكانوها ولكن في فؤادي.


  2. إضافة إلى أن المشهور في بيت المجاشعي: ”وإخوانٍ تخذتهمو...“ لا "حسبتهم"، رغم ورود هذه الرّواية عند الزّمخشري في الكتاب المذكور في هذا البند، حيث إنّ " تخذتهمو/ تخذتهمُ" هو الفعل الوارد عند ابن الرّوميّ أيضا. والجرّ في إخوان أسلم من الرفع.



 



أرجو أن تغني المراجع بكلاسيكيّات إضافيّة مهمّة للوقوف على رأي مصنّفيها، وزيادة في الفائدة للطّلبة، ومنها: كتاب الموازنة للآمديّ، والمثل السّائر في أدب الكاتب والشاعر لابن الأثير، والصبح المنبي عن حيثيّة المتنبّي ليوسف البديعيّ، ونضرة الغريض في نصرة القريض للمظفّر بن الفضل، وعيار الشعر لابن طباطبا.



وأخيرا... قد تكون " مواقف" علَمًا في الدّاخل، ولكنّ هذا لا يعني أن يخلو الكتاب من مكان الصدور. أرجو، والكتاب جهد محمود وفائدة ومتعة، ألا تنتقصه هذه الهنات الصغيرة، وأن يلتفت الصديق أبو خضرة إلى تقويمها في الطبعة الثانية للكتاب، والذي لسلاسته وجماليّة ما فيه، أنصح بقراءته وتدريسه.



ثم انتقل الحديث للأديب حسين حمزة للتعليق عن كتاب الأديب حنا أبو حنا "عراف الكرمل"



عراف الكرمل... أو هل للذاكرة رائحة؟



لا شك في أن العنوان عتبة أساسية من عتبات النص بحسب تعبير الناقد الفرنسي جنيت. وعراف الكرمل عنوان مجموعة الشاعر حنا أبو حنا يجمع بين عنصري الزمان والمكان أو بين الأنا الذاتي والأنا الجماعي وبين الجسد وذاكرة الجسد. كذلك، فإن دلالة العراف باعتباره يملك المستقبل مغايرة لما جاءت عليه في الديوان. إن حركة الزمن الثيماتي الموضوعاتي لقصائد الديوان هي حركة ورائية مرتدة ونوستالجية تؤكد أهمية المكان بكل تضاريسه وجمالياته. إضافة لذلك، إن دلالة العراف بمعنى الكشف تنسحب على الالتفات إلى أنا الشاعر الذاتية والاهتمام بتفاصيل القلب وذكرياته بشفافية ورومانسية وتفرس أيضا بالتجربة الحياتية.



من الأمثلة التي يقتنص الشاعر فيها اللحظة الشعرية ويمسك بناصية الزمن قوله:



" أحضن راحتك بكفيّ



كما الحسون يضم جناحيه على الراحة



كالقط يخرف في زاوية الدفء



هذه اللحظات فراشات في أفق السوسن



هذي النشوة زلزال" ( د. ص27)



إن قاموس ومفردات المقطع أعلاه يجعل القارئ يشارك الشاعر مشاعره بكليته، يؤكد ذلك توظيفه لشعرية الحواس: صورة الفراشات والقط تعكس حالة الرؤية، والحسون حاسة السمع، والسوسن حاسة الشم. لا شك أن احتفال الجسد تتويج لاحتفال الحواس.



إن قصيدة "أفتح عينيّ" (ص37) تعتبر قصيدة الجسد بامتياز فيها معادل موضوعي بين الجسد الأنثوي وبين رائحة القهوة في الصباح. في هذه القصيدة درجة الحس بالموجودات عالية وشعرية الحواس المتمثلة في الألفاظ رائحة القهوة وعصف الطيب وفوران القهوة وفتح العينين تؤكد احتفال الجسد بالجسد.



إن السياق العام للقصيدة يبدأ بالفعل المضارع المنفتح على الكشف والانبهار وتجدد الحياة. ثم إن دلالة الفتح تحيل على إمساك الشاعر باللحظة الزمنية حتى لا تضيع، من هنا يقف العراف بعد أن قطع مسافة زمنية ليطل على ذاكرته ومن ثم يصبح وصف الواقع الآني المغلف نوستالجيا والمليء بالتفاصيل حالة من معاندة الزمن.



 



في قصيدة "عراف الكرمل" نلاحظ تغليب الأنا الجماعي على الأنا الذاتي. فالكرمل في نيسان بداية الحياة له لونه الخاص عند الشاعر، ونيسان رمز عالمي استهوى شعراء مثل إليوت ومحمود درويش. والشاعر يؤثث ذاكرتنا الجماعية بالهوية النباتية للمكان:



" نيسان يفكك عرى الأزرار



يعري صدر الكرمل



تشتعل شقائقه المرجان



وعقود القندول تحاور عنق النرجس



والهدهد يرسم فوق الزعتر ظل اللحن



يسرح غرته لرموش الشمس" (ص105)



وفي قوله:



" أمطر نيسان



وشتوة نيسان على الكرمل



تحيي الأحزان



وتدوزن أوزان الغربة"(ص106)



يصبح الاغتراب نوستالجيا جماعية للذين رحلوا ورُحّلوا.



من الواضح أن ثنائية الجسد والذاكرة جدلية أساسية في الديوان يحتفل الشاعر بالجسد بشعرية الحواس ويطل عليه بذاكرة لها رائحة القهوة والكرمل.



علق البروفيسور جورج قنازع على كتاب الأديب حنا أبو حنا "عراف الكرمل" بأن الكاتب قد وصل قمة الإبداع وقد أشار إلى مخزونة التاريخي والثقافي والجغرافي الذي أعاد من خلاله الكثير من الأحداث بحب وإخلاص. أما تعليقه على كتاب الدكتور فهد أبو خضرة بان الكتاب لا يتعرض للنظرية التي تقوم عليها السرقات، وعلى مر العصور تم استبدال التعبير بحسن الأخذ وقبح الأخذ بدل السرقات، أما عن الدراسات المعاصرة فهي اليوم لجماليات الأدب وليس لموضوع السرقات الشعرية.



جاء في مداخلة الكاتب محمد سعيد حول كتاب "عراف الكرمل": ما دام حنا أبو حنا يكتب الشعر، فالشعر بخير، فقد تداخلت الأنا الخاصة به بنحن العامة في مناخ تعبيري مدهش لبساطته الصعبة وسهولته الممتنعة وتجربته العميقة، ابتعد عن الإغراءات الخارجية والخطابة، فحنا الأديب سيبقى من أبرز أركان شعبنا الثقافية والسياسية والوطنية والإنسانية.



 



أما مداخلته حول كتاب السرقات الشعرية وما يتصل بها " لقد أحسن وأجاد وأفاد الدكتور فهد في كتابة هذا ووفر مرجعا مهما، فقد امتاز الكتاب بلغته السهلة والأسلوب الرشيق والشمولي.



وشخصيا أطالب بتعليم علم العروض والبلاغة في المدارس لأهمية الأمر وضرورته. وأشار الدكتور سليم مخولي باستعمال كلمة السرقة وتوارد الخواطر واستبدالها بتوافق القرائح.



علق الشاعر رشدي الماضي بأنه تأثر بالأديب حنا أبو حنا، أما عن كتاب السرقات الشعرية فقد غطّى فراغا ونقصا معينا في مجاله، وفضّل أن يدخل المدارس بعد إدخال بعض التعديلات على الكتاب.